قيود تركية على إسرائيل- ضغوط داخلية وتداعيات إقليمية محتملة.

المؤلف: صالحة علام11.06.2025
قيود تركية على إسرائيل- ضغوط داخلية وتداعيات إقليمية محتملة.

في خطوة مفاجئة تحمل في طياتها دلالات سياسية ودبلوماسية جمة، أعلنت وزارة التجارة التركية عن قرار بالغ الأهمية يقضي بتقييد تصدير مجموعة واسعة من السلع الحيوية، قوامها خمسة وأربعون منتجًا، إلى إسرائيل، وذلك اعتبارًا من التاسع من أبريل/ نيسان الجاري. تشمل هذه القائمة مواد بالغة الأهمية مثل وقود الطائرات الضروري، وكافة مواد البناء الأساسية من حديد وصلب، بالإضافة إلى الكابلات الكهربائية عالية التقنية، وكابلات الألياف الضوئية المتطورة، والمواد العازلة المستخدمة على نطاق واسع في قطاع البناء، ولا ننسى الأسمدة الكيماوية الحيوية للزراعة.

حملة إعلامية موجَّهة

وأكدت الوزارة في بيانها الرسمي أن هذه القيود المفروضة على الصادرات التركية إلى إسرائيل ستظل سارية المفعول طالما استمر العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة المحاصر، واستمرار رفضها العنيد السماح بدخول المساعدات الإنسانية الضرورية للفلسطينيين، بما في ذلك المواد الغذائية الأساسية والإمدادات الطبية العاجلة.

البيان الذي سرعان ما انتشر كالنار في الهشيم عبر وسائل الإعلام المختلفة ومنصات التواصل الاجتماعي، بدا للكثيرين بمثابة حملة إعلامية مركزة وموجهة، تستهدف في جوهرها التأثير على الرأي العام الداخلي في تركيا أكثر من التأثير على الأطراف الخارجية.

وتشير جميع الأنباء المتداولة حول هذا الموضوع إلى أن السبب الرئيسي وراء هذا الموقف التركي المفاجئ يعود إلى رفض إسرائيل طلبًا رسميًا من أنقرة بالسماح بإدخال مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة المنكوب عبر طائرات شحن تركية، بالتنسيق الكامل مع الأردن، على الرغم من أن العديد من الدول الأخرى تقوم بإيصال المساعدات إلى قطاع غزة عبر الأجواء الأردنية، وتحت رعايتها الكاملة، دون أي اعتراض يذكر من الجانب الإسرائيلي.

وقد سبق قرار وزارة التجارة تصريح هام لوزير الخارجية هاكان فيدان، أعلن فيه بوضوح أن بلاده عازمة على اتخاذ سلسلة جديدة من الإجراءات الحاسمة ضد إسرائيل؛ بهدف عرقلة رفضها السماح لتركيا بإيصال المساعدات الإنسانية جوًا إلى غزة باستخدام طائرات الشحن الخاصة بها، وأكد أنه سيتم الإعلان عن هذه الإجراءات تباعًا من خلال المؤسسات المعنية والمخولة بتنفيذ هذه المهمة.

الرأي العام التركي المستهدف

إن هذا الموقف التركي المفاجئ، وتداوله الواسع النطاق بهذه الصورة اللافتة، يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الهدف الرئيسي منه هو التأثير على الرأي العام التركي، وتحديدًا القاعدة الشعبية العريضة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، وذلك بعد أن أكدت العديد من التقارير التي تم رفعها إلى القيادة السياسية أن أحد أهم الأسباب التي أدت إلى خسارة الحزب الحاكم في الانتخابات المحلية الأخيرة، وتراجع نسب التصويت لصالحه، يعود إلى الطريقة التي تعامل بها مع حرب الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي، والسياسة التي تم اتباعها في هذا الملف الحساس.

فقد رأت القاعدة الشعبية للحزب أن هذه السياسة تتسم بالتراخي والمهادنة، على الرغم من حجم المأساة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون في القطاع المحاصر، والوحشية المفرطة التي يتعامل بها الجيش الإسرائيلي تجاه المدنيين العزل هناك، خاصة وأن هذا الأمر تزامن مع صدور العديد من البيانات من منظمات دولية وإسرائيلية، تفيد بأن حجم التبادل التجاري بين أنقرة وتل أبيب قد شهد ارتفاعًا ملحوظًا منذ اندلاع "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بل وتضاعف عدة مرات مقارنة بما كان عليه قبل ذلك.

إجراءات صرامة

وعلى الرغم من تصريحات النفي المتكررة التي أصدرها المسؤولون الأتراك في ذلك الوقت، وتأكيدهم المستمر على أن التبادل التجاري بين بلادهم وإسرائيل قد شهد انخفاضًا كبيرًا وصل إلى 50% منذ اندلاع "طوفان الأقصى"، بل إن هناك توقفًا تامًا منذ فترة ليست بالقصيرة، فيما يتعلق ببيع أي من المنتجات التركية التي يمكن استخدامها لأغراض عسكرية، فإن هذا النفي لم ينجح في إقناع القاعدة الشعبية العريضة للحزب، والتي ترتكز في غالبيتها على شريحة الإسلاميين والمحافظين أصحاب الأيديولوجية الجهادية، والذين رأوا ضرورة التعبير عن رفضهم لهذه السياسة، ومعاقبة الحزب عبر صناديق الاقتراع.

وهو الأمر الذي يتطلب من الحزب الحاكم اتخاذ إجراءات أكثر صرامة وأشد تأثيرًا، يمكن من خلالها استرضاء مؤيديه واستعادة شعبيته المفقودة، وسد الطريق أمام مساعي المعارضة للمطالبة بانتخابات برلمانية مبكرة، قياسًا على النتائج غير المواتية التي أسفرت عنها الانتخابات المحلية الأخيرة.

ولهذا السبب، تصاعدت خلال الفترة الأخيرة تصريحات المسؤولين الأتراك بشأن حجم المساعدات الضخمة التي قدمتها الحكومة لقطاع غزة، إذ صرح وزير العدالة على سبيل المثال بأن بلاده أصبحت الدولة الأكثر إرسالًا للمساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، كما كتب فخر الدين ألطون، رئيس دائرة الاتصال بالرئاسة التركية، على صفحته بمنصة "إكس" أن بلاده، شعبًا وحكومة، هي الدولة التي أبدت أكثر المواقف فاعلية ضد حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد سكان غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.

موقف إسرائيلي غاضب

وبينما أكد وزير التجارة عمر بولوت أن التبادل التجاري مع إسرائيل قد انخفض بصورة ملحوظة منذ "طوفان الأقصى"، أوضح وزير الطاقة والموارد الطبيعية ألب أرسلان بيرقدار أن بلاده قامت بتعليق خطط التعاون للتنقيب المشترك عن الطاقة مع إسرائيل في شرق البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى الخطط التي كانت تهدف إلى تصدير الغاز الإسرائيلي إلى الأسواق الأوروبية عبر تركيا، وذلك على خلفية الأحداث المأساوية في غزة، والتعنت الإسرائيلي المستمر تجاه إرسال المساعدات الإنسانية الضرورية لسكان القطاع.

من جانبه، فضّل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الحديث عن هذا الأمر في رسالته المصورة لتهنئة الشعب التركي بحلول عيد الفطر، إذ قال: "لقد أظهرنا دعمنا الكامل للشعب الفلسطيني في محنته الراهنة، وقمنا بإرسال أكثر من خمسة وأربعين ألف طن من المساعدات الإنسانية، وإننا منذ الآن فصاعدًا سنواصل دعمنا حتى تتوقف أنهار الدماء التي تسيل في غزة، ويقيم إخواننا الفلسطينيون دولتهم الفلسطينية الحرة وعاصمتها القدس الشرقية".

لم تمر قرارات تركيا بشأن وقف تصدير العديد من منتجاتها الحيوية لإسرائيل مرور الكرام، بل أثارت ردود فعل غاضبة وتهديدات متبادلة، إذ هدد الجانب الإسرائيلي علنًا باتخاذ إجراءات مماثلة ضد الموقف التركي، وأعلن أنه سيقوم بشن حملة عالمية واسعة النطاق لدى الدول المؤيدة لسياساته، والمنظمات الداعمة له داخل الولايات المتحدة الأميركية، بهدف وقف جميع استثماراتها في تركيا، بما في ذلك سحب جميع ودائعها من البنوك التركية.

وصرح وزير الخارجية الإسرائيلي بأن بلاده ستقوم هي الأخرى بإعداد قائمة بالمنتجات التركية التي سيتم منع دخولها إلى إسرائيل، وأنهم سيلجأون إلى كل من الكونغرس والإدارة الأميركية لبحث ما وصفوه بانتهاك تركيا لقوانين المقاطعة ضد إسرائيل، بهدف فرض العقوبات اللازمة عليها، واصفًا القرار التركي بأنه انتهاك أحادي الجانب للاتفاقيات التجارية الموقعة بين البلدين.

الأمر الذي ينذر ببداية مرحلة جديدة من التوتر الشديد في العلاقات التركية الإسرائيلية، والتي قد تنعكس سلبًا على علاقات تركيا بالولايات المتحدة الأميركية، الحليف الاستراتيجي لإسرائيل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة